في خطوة مبتكرة تهدف إلى تطوير النظام الاقتصادي في تونس وتعزيز فرص التشغيل، يقترح الرئيس قيس سعيد على الشعب التونسي إنشاء الشركات الأهلية كأداة لتعزيز المشاركة الفعالة للعمال في إدارة الشركات وملكيتها.
هذه الفكرة تقوم على تحفيز العمال حتى يكون لهم نصيب من رأس مال الشركة، ما يعزز مسؤوليتهم تجاه المؤسسة التي يعملون بها ويسهم في خلق بيئة عمل أكثر استدامة، إلا أن التطبيق الفعلي لهذه الفكرة يواجه تحديات كبيرة، ويبدو أن هذه التجربة قد قوبلت بردود فعل سلبية من قبل العديد من التونسيين. هذه الفكرة، على الورق، تبدو جذابة حيث تقوم على خلق بيئة تنافسية بين الشركات وتحقيق العدالة الاجتماعية بين أصحاب العمل والعاملين ووفقًا لإحصائيات البنك الدولي، يمكن أن تساهم مثل هذه المبادرات في تحسين الإنتاجية وتقليل الفجوة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية. ورغم إيجابية الفكرة في ظاهرها، إلا أن عملية التنفيذ في الواقع التونسي تواجه العديد من العقبات التي تجعلها تبدو بعيدة المنال. ومن أبرز هذه التحديات: الرخص الإدارية المعقدة. ويعد النظام الإداري في تونس أحد أكبر العوائق أمام إنشاء الشركات الأهلية. فالرخص المتعددة والمعقدة التي يجب الحصول عليها لتأسيس أي نوع من المشاريع هي مسألة تشكل قيدًا كبيرًا على المستثمرين، سواء كانوا رجال أعمال أو عمال. ووفقًا لإحصائيات البنك الدولي، يحتاج المستثمرون في تونس إلى ما لا يقل عن 10 رخص مختلفة من أجل إطلاق مشروع جديد، وهو ما يستغرق وقتًا طويلاً ويمثل عبئًا إضافيًا على المستثمرين. وواحدة من النقاط التي أثارت القلق هي شرط أن تتكون الشركة الأهلية من خمسين شريكًا على الأقل. هذا الشرط يحد من قدرة الأفراد على تجميع الشركاء بسهولة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الحالية التي تعيشها تونس. والسؤال الذي يردده التونسي كثيرا حول الشركات الاهلية: كيف ستتخذ هذه الشركات القرارات وعلى رأسها خمسون قائد؟ فعملية تجميع 50 شريكًا يشكل تحديًا كبيرًا في بلد يعاني من البطالة وضعف القوى الاقتصادية. ووفقًا لدراسة أصدرتها الغرفة التجارية التونسية، فإن أكثر من 30% من المشاريع الصغيرة والمتوسطة في تونس لا تتمكن من النجاح بسبب القيود على تكوين الشراكات وضغط اللوائح الإدارية. إن العوامل التي جعلت الفكرة غير مقبولة على نطاق واسع هو غياب الثقة في النظام الإداري والاقتصادي الحالي. فالشعب التونسي يعاني من شعور مستمر بعدم العدالة في توزيع الثروات والفرص، ولذلك قد يرى العديدون أن هذه الشركات الأهلية لا تعدو كونها مجرد وسيلة لإلهاء الناس دون أن توفر حلاً حقيقيًا للأزمة الاقتصادية. بحسب استطلاع للرأي أجرته مؤسسة إيبسوس في 2023، أفاد 70% من التونسيين بأنهم لا يثقون في قدرة الحكومة على تحسين الوضع الاقتصادي في البلاد، مما يزيد من التشكيك في فعالية هذه المبادرة.
المجتمع التونسي، بطبيعته، غير مهيأ بعد لتقبل مفهوم المشاركة الجماعية في ملكية الشركات، خاصة بعد سنوات طويلة من تركز السلطة في يد عدد قليل من رجال الأعمال. إضافة إلى أن عقلية العمل الجماعي والتضامن بين العمال ليست سائدة على النحو الذي يمكن أن يضمن نجاح هذه الشركات. وتشير دراسة صادرة عن معهد البحوث الاقتصادية التونسي إلى أن 40% من العمال التونسيين يفضلون بيئة العمل التقليدية التي يسيطر فيها صاحب العمل على اتخاذ القرارات، مما يعكس ضعف الثقافة التعاونية في بيئة العمل. إذا لم يتم تحسين بيئة الأعمال في تونس، فقد تُعتبر فكرة الشركات الأهلية مجرد محاولة لإضفاء طابع إصلاح على نظام اقتصادي يعاني من التحديات الهيكلية الكبيرة. مع استمرار البيروقراطية التي تضع عوائق أمام الاستثمارات، قد يؤدي الفشل في تطبيق هذه الفكرة إلى تعزيز الشعور بالإحباط لدى المواطنين، وزيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية. في عام 2024، أفادت دراسة للبنك الدولي بأن نسبة النمو الاقتصادي في تونس لم تتجاوز 2.5% سنويًا، في حين أن الدول المجاورة مثل المغرب شهدت معدلات نمو أكبر بكثير. لا يمكن إنجاح فكرة الشركات الأهلية دون أن يكون هناك إصلاح جذري في نظام الأعمال في تونس بل يجب إعادة النظر في القوانين البيروقراطية التي تحد من النمو الاقتصادي، وتبسيط الإجراءات الإدارية. كما يجب العمل على تحفيز ثقافة العمل الجماعي والمشاركة الفعالة بين الأفراد. على المستوى السياسي، ينبغي أن تكون هناك استراتيجية واضحة لدعم هذا النوع من الشركات من خلال تسهيل حصولها على التمويل وتقديم حوافز ضريبية. إذا لم يتم اتخاذ هذه الخطوات، فإن الشركات الأهلية قد تصبح مجرد حلم بعيد المنال في ظل الظروف الراهنة. وبينما يمكن أن تمثل الشركات الأهلية خطوة كبيرة نحو تحسين الوضع الاقتصادي في تونس، فإن النجاح في تحقيق هذه الفكرة يتطلب تفهمًا عميقًا للتحديات الهيكلية والاقتصادية التي تواجهها البلاد. ودون إجراء إصلاحات شاملة في نظام العمل والبيروقراطية، ستظل هذه المبادرة فكرة جميلة ولكن يصعب تنفيذها.